
رابطة علماء المسلمين
May 29, 2025 at 08:57 PM
حرب غزة يوميات ومشاهدات [89]
(من ذكريات عشر ذي الحجة في غزة)
كلما أقبلت هذه المواسم نَكَأَت فينا الجراح، وأشعلت في القلوب نارا لا تنطفئ؛ ومن أسباب ذلك: أنها مواسم عبادة وإقبال على الله تعالى، والمرء لا يحصل له في أوقات الشدائد من الإقبال والخشوع ما يحصل في أوقات السلامة والعافية، وإن كانت الشدائد يقع فيها في الجملة نوعُ إنابة وضراعة إن كان المبتلَى ممن يعتبر ويتعظ، وهو من أعظم مقاصد الابتلاء بها، كما عرَضنا لذلك في مناسبات تقدمت.
تعظيم أيام العشر في غزة قديم، وأنا أذكر صيام الناس وعبادتهم فيها مذ وعَيت، وزاد هذا في السنوات المتأخرة، وقد رأيت من ينتظر أيامها ويستعد لها أعظم من استعداده لرمضان.
وكنا من عشر سنوات تقريبا -إلى أن دخلت الحرب- نعتكفها في المساجد، وتكثر فيها دروس العلم والوعظ، ويخرج الإخوة والدعاة إلى الأسواق يكبرون ويكبر الناس بتكبيرهم.
وكان كثير من الإخوة والأفاضل في يوم عرفة يصلي الفجر ولا يخرج من المسجد إلا بعد المغرب، فإذا مضت ساعة بعد العصر اجتمعوا على الدعاء حتى يؤذَّن للمغرب.
وكثير من الناس يسردون صيامها، ويحرصون عليه حرصهم على صيام رمضان، واليوم يشق الصوم على الأكثرين للحال التي لا تخفى، والله المستعان وعليه التكلان.
ويستعد الناس في بلادنا للأضاحي من وقت مبكر، ويأتي كثير منهم بها إلى منزله، ويطعمها ويسقيها حتى يضحي بها أول أيام الأضحى، فإذا خرجْتَ في شوارع غزة أول أيام العيد رأيت دماء الأنعام تجري في الطرقات، ويجمع الرجل أهله وقرابته سيما الصغار ليشاهدوا الشعيرة العظيمة المباركة، ثم يأكل الناس من ضحاياهم ويجودون باللحم على قراباتهم وجيرانهم وأصحابهم ومن يعرفون من الفقراء والمساكين.
وشوارع غزة اليوم كسيفة حزينة باكية، لا ترى فيها إلا الخراب والدمار والبؤس الذي عم العباد والبلاد، وإنا لنسأل الله الفرج والعافية قبل حلول العيد ليتنفس الناس، والله رؤوف رحيم.
وإني أوصي نفسي وإخواني بالجد والاجتهاد في هذه الأيام الفاضلة، والعبد إذا استعان بالله أعانه ويسر له أمره، فاستعينوا بالله وأقبلوا عليه واضرعوا إليه أن يكشف ما بنا من الضر، فإنه لا يكشف الضر سواه.
وقد دلت الأحاديث الواردة في فضائل العشر على أن أيامها أفضل من غيرها من الأيام مطلقا، بل ظواهرها تدل كذلك على أن لياليها أفضل من ليالي غيرها، ويستثنى من ذلك ليلة القدر، فإنها مقدمة على غيرها مطلقا، كما ذكر ابن رجب في "اللطائف" (ص467)، وردَّ هناك على من يفضل ليالي العشر الأواخر من رمضان على لياليها، قال: "... فمن المتأخرين من زعم أن ليالي عشر رمضان أفضل من لياليه لاشتمالها على ليلة القدر، وهذا بعيد جدا".
وتدل الأحاديث كذلك على "أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره، ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد؛ وهو أن يخرج الرجل بنفسه وماله، ثم لا يرجعَ منهما بشيء" [فتح الباري (9/12- ط الغرباء) لابن رجب].
فما فُعل فيها من فرض أفضل مما فعل في غيرها، وما فعل فيها من نفل أفضل كذلك مما فُعل في غيرها، بل إن العمل فيها -وإن كان مفضولا- أفضل من العمل في غيرها، وإن كان فاضلا؛ وذلك لشرف الزمان. [انظر: فتح الباري (9/12) لابن رجب].
وسبب امتياز هذه الأيام وتقديمها على غيرها: اجتماع أمهات العبادة فيها: من توحيد، وصلاة، وصيام، وصدقة، وحج.
فالتوحيد: بتكبير الله وتهليله.
والصلاة: بشهود صلاة عيد الأضحى.
والصيام: بصيام التسع، خصوصا يومَ عرفة،
والصدقة: بما يخرجه المرء من أضحيته.
والحج: بأداء هذه الشعيرة العظيمة التي جُعلت في هذه الأيام المباركة.
فجِدوا يا عباد الله واجتهدوا في هذه الأيام العظيمة، والنفحات المباركة، لعل نفحة منها تصيب الواحد منا فيسعدَ سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن من أعظم الخِذلان والحرمان أن يقعد العبد عن الطاعات في مثل هذه المواسم.
إذا هبّت رياحك فاغتنمها
فعُقبى كل خافقة سكونُ
ولا تغفُل عن الإحسان فيها
فما تدري السكون متى يكون
ومن حُرم من الحج والأضحية، وشق عليه الصيام فليجتهد فيما يقدر عليه من العبادات، من صلاة وذكر ودعاء وتلاوة وتفكُّر وغير ذلك مما ييسره الله له، وليحرص في ذلك كله على إقبال قلبه، فإنه موضع نظر الرب سبحانه، وبه يتفاوت الناس في الأجر والقرب.
ومن كان من أهل السَّعة فلْيَجُد ولينفق مما آتاه الله، فإن الإنفاق اليوم من أعظم القربات؛ لشدة حاجة الناس.
ومن لم يكن له مال واستعمله الله في أعمال الخير والإغاثة فإنه على ثغر عظيم، فليتق الله فيما هو قائم عليه ومكلَّف به، فإن فعل فهو شريك المنفق والمتصدق في الأجر إن شاء الله.
واعلموا يا أهلنا في غزة أن الصبر على البلاء أجره عظيم عظيم، فاحتسبوا ما يصيبكم في ذات الله، واعلموا أن البلاء مهما طال فإنه إلى زوال وانكشاف بحول الله تعالى، فاللهم فرجا قريبا عاجلا تُفرح به قلوبنا، وتؤمننا به دورنا وأوطاننا.
✍🏻 بقلم فضيلة الشيخ د. بسام بن خليل الصفدي
الأربعاء 1 ذو الحجة 1446