
فوائد وفرائد
June 17, 2025 at 08:38 PM
*زمن العزة 62*
(أيام عمر 21)
(( معركة القادسية 5 : اليوم الثاني : أغواث ))
كانت مبارزة القمة بين بطل الإسلام / القعقاع بن عمرو و القائد الفارسي اللعين / بهمن جاذويه هي أولى فعاليات اليوم الثاني المثيرة ...!!
.. خشعت أبصار الفريقين ...
.. ، و كتم الجميع أنفاسهم .... !!!!
.... ، وأخذوا يترقبون كيف ستكون نتيجة
تلك المبارزة الفاصلة ... ؟!
.. ، فتبادل المتبارزان ضربات شديدة متلاحقة ..
، حتى استطاع القعقاع بن عمرو أن يطعن خصمه بهمن جاذويه طعنة الوداع ..... !!!
.. ، فطارت قلوب المسلمين فرحا .. ، ليس فقط لأن القعقاع هو الذي فاز .. ، و لكن أيضا لأنهم شعروا بأنهم انتقموا من هذا اللعين الذي قتل أعدادا كبيرة من إخوانهم في معركة الجسر ...
.. ، و على الجانب الآخر .. انهارت معنويات الفرس من نتيجة المبارزة .. فبهمن جاذويه ليس قائدا عاديا .. بل هو من أفضل و أعظم قادة الفرس .. ، فأصابتهم خيبة الأمل
، و تملكهم التشاؤم قبل بداية القتال ... !!!
.. ، ولكن رستم المجرم لم يستسلم لنتيجة المبارزة ، و أراد أن يقضي على هذا القعقاع الذي تتعلق به آمال المسلمين ..
.. ذلك البطل النادر الذي زكاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوما فقال : (( لا يهزم جيش فيه مثل هذا الرجل )) .. ،
لذلك كان المسلمون يتوقعون فعلا أن يغير القعقاع بمشاركته
في القادسية مسار المعركة ، و أن يعوضهم عن عدم مشاركة سيدنا سعد بن أبي وقاص في القتال بسبب مرضه ...
.. ، أخرج رستم قائد جيش المؤخرة / البيرزان ليبارز القعقاع.. ، فقتله القعقاع بضربة واحدة أطار بها رأسه ..
، ثم نادى : (( هل من مبارز .. ؟!! ))
.. ، فركب رستم حماقته طمعا في أن يقتل القعقاع .. ، و أخرج له فارسا تلو فارس .. فهزمهم القعقاع جميعا .. ،
حتى قتل له ثلاثين فارسا قبل أن يبدأ القتال ..!!
.. ، و استغرقت جولات تلك المبارزة الساخنة الفترة الصباحية بالكامل .. ، و انتهت بعد أذان الظهر ..
، فانتظر المسلمون أن يكبر سيدنا سعد التكبيرة الرابعة ليبدأوا الهجوم ..
، و قد لاحظ المسلمون في هذا اليوم الثاني اختفاء أفيال الفرس من أرض المعركة تماما .. ، وكان السبب في ذلك أن الفرس أخذوا الأفيال إلى الجيش الاحتياطي خارج أرض المعركة لإصلاح التوابيت ، و إعادة ربط الأحزمة ، بعدما أصابهم في اليوم الأول ....
.. ، وما أن كبر سيدنا سعد التكبيرة الرابعة حتى انقض المسلمون على الفرس .. ، و دار قتال عنيف .. أشد من اليوم الأول .. ، و هيا بنا الآن نفتح صفحات التاريخ لنقرأ معا عن بعض نماذج الاستبسال و التضحية التي سجلت لأبطال المسلمين في تلك الملحمة العظيمة ....
................ الخنساء ............
الشاعرة العربية المخضرمة جاءت لتشارك في القادسية ، و معها أبناءها الأربعة .. ، تلك الشاعرة التي اشتهرت في الجاهلية بشعرها الحزين الذي أنشدته رثاء بعد مقتل
أخيها / صخر .. ها هي الآن في معسكر النساء في العذيب بين المسلمات تشاركهن في رعاية المصابين و علاج الجرحى .. ، فكانت في ليلة أغواث .. ليلة الهدأة .. تحث أبناءها أن يقاتلوا بشجاعة و إقدام حتى ينالوا الشهادة .. ، و أخذت تذكرهم بالجنة و نعيمها ، و تذكرهم أنها الموعد ، و أنها دار البقاء .. ، و أن الدنيا دار فناء زائلة .. ، فارتفعت عزائمهم من قوة كلامها ، و انطلقوا في يوم أغواث مع المسلمين يقاتلون قتال الأبطال .. ، حتى استشهدوا واحدا تلو الآخر في نفس اليوم ... !!!!!
.. ، و أشفق المسلمون على قلب الأم من هذا الخبر الأليم ... ، و لكن الخنساء فاجأت الجميع بصبرها العجيب حينما وصلها الخبر .. ، فلم تجزع .. ، ولم تصرخ ..
.. ، إنما قالت بنفس راضية مطمئنة :
(( الحمد لله الذي شرفني بقتلهم .. ، و أرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته )) .... !!!
و لا عجب .. فتلك هي ثمرة الإيمان التي يجد المؤمنون حلاوتها في وقت الشدائد و الابتلاءات .
....... علباء بن جحش .......
كان من أوائل الأبطال الذين استشهدوا في يوم أغواث بعد أن قاتل بشجاعة مذهلة منذ بدء الهجوم الشامل ..
فقد ضربه جندي فارسي في بطنه .. فخرجت أمعاءه ..
، و على الرغم من ذلك استطاع أن يضرب ذلك الفارسي في صدره فقتله .. ، ثم سقطا معا على الأرض ... !!
.. ، و أخذ علباء يحاول أن يعيد أمعاءه داخل بطنه فلم يستطع .. ، فنادى جنديا مسلما كان بالقرب منه و قال له و صوته لا يكاد يخرج : (( يا أخي أعني على بطني )) .. يريد منه أن يساعده ليدخل أحشاءه داخل بطنه .. لا ليعود إلى المعسكر ليتم إسعافه .. بل ليكمل القتال ببطنه المفتوحة ..!!
.. ، و بالفعل .. قام علباء وهو يمسك بطنه بيده اليسرى ، و توجه نحو الفرس ليقاتل .... ، ولكنه عجز و سقط بعد خطوات قليلة .. ، ثم سمعوه يقول .. وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة :
(( أرجو بها من ربنا ثوابا .. قد كنت ممن أحسن الضرابا ))
.............. ليلة السواد .........
.. ، و استمر القتال ضاريا دمويا طوال اليوم ، ودون استراحة إلى ما بعد منتصف الليل .. ، فكلا الفريقين كان يريد أن يحسم المعركة لصالحه ..... !!!
... ، و تساقط عدد كبير من الشهداء حتى كادت المعركة أن تنتهي في تلك الليلة .. و التي سميت بليلة السواد ..
لصالح الفرس .. لولا هذا النجم الساطع الذي ظهر على أرض القادسية في منتصف الليل .....
إنه .... الصحابي الجليل و الفارس العربي الأصيل /
أبو محجن الثقفي رضي الله عنه ...!!
... ، و لكن .... كيف حدث هذا ... ؟!!!
.. ، ألم يعتقل أبو محجن ، و يودع في السجن ... ؟!!
صحيح .. ، و لكن هناك مستجدات وقعت في قصر قديس غيرت مجرى الأحداث .. فتعالوا بنا إلى داخل القصر لنرى ماذا حدث ... ؟!!
......... ........ ....... ......... .....
... ها قد وصلنا إلى باب السجن ..
.. ، و ها هو ذا أبو محجن الثقفي رضي الله عنه يجلس بداخله مكتئبا حزينا ، و قد قيدوه بسلاسل ثقيلة حتى لا يتمكن من الهرب .. ، و كان يسمع أصوات السيوف و ضبح الخيول أثناء القتال ..، و يهتز قلبه مع أصوات التكبيرات .. ، فيتحرق شوقا للمشاركة مع المسلمين ..
.. ، و لكن كيف .. وهو ممنوع .. محروم .. معاقب .. ؟!!
.. ، و حين بدأ القتال طلب أبو محجن الثقفي رضي الله عنه من سيدنا / سعد أن يصفح عنه ، و أن يسمح له بالمشاركة مع إخوانه .. ، و أكد له أنه نادم على ذنبه و لن يعود ..
.. ، ولكن سعدا رفض طلبه رفضا قاطعا ... !!!
.. ، و كانت سلمى زوجة سيدنا / سعد هي المسئولة عن تقديم الطعام للمحبوسين في القصر .. ، فلما دخلت بالطعام على سيدنا أبي محجن قال لها :
(( يا أمة الله ... ، هل لك في خير ... ؟! ))
فقالت له : (( وما ذاك ...؟!! ))
قال : (( تفكين أسري ، و تعيريني البلقاء .. فرس سعد .. فأشترك في القتال .. ، فإن سلمني الله عدت ، و وضعت قدمي في القيد .. ، وهذا عهد مني إليك ))
.. ، فقالت له : (( لا .. لا أستطيع .. يغضب مني سعد ))
... ثم تركته و انصرفت ...
.. ، فلما عادت إليه بعدها بالطعام ، وجدته يبكي بكاء شديدا ، و يقول شعرا يعبر فيه عن ألمه و حزنه لأنه عاجز عن المشاركة في القتال ... فسمعته يقول :
(( كفى حزنا أن تلتقي الخيل بالقنا ..
و أُترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد ، و أُغلقت ..
مصارع دوني قد تصُم المناديا ))
فأشفقت عليه سلمى .. ، و عادت فصلت صلاة الاستخارة
.. ، ثم جاءته ، و قالت له :
(( يا عبد الله .. إني استخرت الله ، و سأفك قيدك .. ، و أذكرك بعهدك أن ترجع بعد المعركة إلى محبسك ..
، و لكنني لا أستطيع أن أعيرك البلقاء ))
.. ، ثم فكت قيده ، و انصرفت ..
.. ، فانطلق أبو محجن .. ، و خرج ملثما من الباب الخلفي للقصر حتى لا يعرفه أحد .. ، و فك رباط البلقاء ..
، ثم ركبها و طار بها إلى أرض القتال .. ، و كان ذلك بعد منتصف الليلة الثانية من المعركة .. ليلة السواد .... !!
.. ، و كان الجيش الإسلامي وقتها قد وصل إلى حالة من الإعياء الشديد بسبب تواصل القتال منذ الصباح إلى ما بعد منتصف الليل دون أية استراحة .. ، و فوجئ الجميع بهذا الفارس الملثم الذي أخذ يكبر ، و يضرب بشجاعة عجيبة في ميمنة الفرس ، فيطير رؤوسهم .. ، ثم يتحرك إلى ميسرتهم وهو يكبر ، و يضرب أعناقهم ....
.. ، و يقتحم صفوفهم .. ، و يفرق جموعهم ، و يقصفهم قصفا منكرا حتى قتل منهم الكثير .. ، ثم اخترق قلب الجيش ، و أخذ يضرب فيه بجراة مذهلة ...!!
.. ، و المسلمون يتعجبون ، و يتساءلون :
(( من هذا الفارس البطل .... ؟!!!! ))
.. لم يعرفوه .. ، حتى ظنه البعض ملكا أنزله الله من السماء ليقاتل معهم .. كتلك الملائكة التي نزلت في غزوة بدر ...!!
.. ، و كان سيدنا سعد نفسه يتابع هذا المشهد في ذهول ،
و هو يقول :
(( والله .. لولا حبس أبي محجن لقلت : أبو محجن ، و لقت : البلقاء ...!!!
... سبحان الله ... الطعن طعن أبي محجن ..
، و الضبر ضبر البلقاء ...!!! ))
.. ، و بعد أن توقف القتال في آخر الليل ..
عاد أبو محجن إلى القصر ، و ربط البلقاء في مكانها ..
ثم دخل محبسه ، و وضع قدميه في الحديد ..!!
...... ........ ........ ........ .........
.. ، و في صباح اليوم التالي صارحت سلمى سيدنا / سعد وأخبرته بالحقيقة .. ، فغضب ... ثم تذكر بطولة أبي محجن في تلك الليلة ، و كيف نكل بجيش الفرس ... فسامحه ،
و أطلق سراحه .. ، و أذن له أن يشارك في القتال
في اليوم الثالث من أيام القادسية .....!!
يتبع .......
المرجع : مؤلفات د. راغب السرجاني