مجلة البيان
مجلة البيان
June 19, 2025 at 04:30 PM
#قراءة أسطورة القبر النبوي في الخرائط الأوروبية بقلم/ د. محمود أحمد هدية تحوَّلت البادية العربية وصحراؤها وسُكّانها لفكرة أسطورية بفضل التشكيل المخيالي عند الغرب الأوروبي؛ لما أدَّته التصورات الذهنية في بناء وصناعة «الآخر» ليناسب التمثيلات المتوهَّمة والمتخيَّلة في المنظومة الفكرية والأيديولوجية الغربية، فجاءت الصُّوَر مرتجلةً، نمطيةً، مكررةً، بعيدةً عن الموضوعية لا تعكس الوجه الحقيقي للآخر الذي تم اختزاله في هيئة مرعبة ومخيفة تنحصر وظائفه وأدواره في ما يرغبه ويرضاه الغرب الأوروبي، فأضحوا يُشكِّلون شعورًا بالرعب في الخيال الأوروبي[1]. كما تميل الصور والوحدات الذهنية والأفكار المسبقة لدى الغرب، فيما يتعلق بالإسلام والمسلمين والعرب؛ إلى كونها ذات طبيعة دينية إقصائية بحتة، فمقاربة الإسلام تتم في غالب الأحيان بطريقة تغلب عليها القبليات المشوّهة التي تحمل في ثناياها نُكران الآخر، وتَخلق له صورًا مهولة تُسهّل عليها عملية إبعاده وإقصائه بأقل الجهود. وأسهمت الأساطير القديمة في تشكيل صورة ممزوجة بالخرافات التي التصقت بالإسلام وبرسول الله صلى الله عليه وسلم في خرائط العصور الوسطى؛ لكونها مزيجًا من حقيقة صغيرة مصحوبة بخيال خِصْب ذي طابعٍ متحيّزٍ وغير مُنْصفٍ، وبطبيعة الحال لجأ رسامو الخرائط لتسجيلها على خرائطهم لتكون أساسًا ومرجعًا يُعتمَد عليه؛ لأنَّهم استقوا معلوماتهم من بعض السِّيَر والروايات المتناقلة والمتوارثة في المتون والسرديات الرحلية والسّفريّة العتيدة التي غلب عليها الجانب الخرافي والطابع الغرائبي والعجائبي؛ لافتقاد مُروّجيها الفرصة الحقيقية لمعايشة الحضارة العربية الإسلامية بشكل مباشر. انعكاس الفهم الخاطئ لصورة النبي صلى الله عليه وسلم على الخرائط القديمة: قدَّمت خرائط العصور الوسطى أسطورة لطالما لاقت رواجًا وصدًى في المجتمعات الأوروبية المسيحية، صدى يُغذّي ويلبّي الكراهية التي زرعها البعض من الباباوات ورجال الدين الذين رفضوا قبول الآخر ورسّخوا ذلك في نفوس الشعب الأوروبي، فأنتجت لها أشعارًا وملاحم وقصصًا استطاعت أنْ تُبقِي على تلك الأساطير حتى وقت قريب، فكلّ الخرافات والسّخافات القديمة المنتشرة في الغرب ما وُضِعَت إِلَّا لتشويه صورة الإسلام في عيون أهل الغرب المسيحي، ويبدو أنَّ هذه الصورة أضحت قوية ومترسّخة الجذور «فكانت تتغلّب بسهولة على أيِّ اتصال موضوعي بالمسلمين الحقيقيين»[2]. ومن بين أساطير خرائط العصور الوسطى: أسطورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي وُصِفَ بالقبر -أو التابوت- المُعلّق على حد تعبيرهم، الطافي في الهواء بفضل الجاذبية أو المغنطة التي تُحيط بقبره -صلى الله عليه وسلم؛ من وجهة نظرهم-. ويعود أصل تمثيل هذه الأسطورة لكتابات أودوريكو دا بوردينوني (حوالي 1265- 1331م)؛ التي أشار إليها في كتابه ltinerarium، بأنَّ قبر النبي محمد يتم تعظيمه وتقديسه هناك، بنفس الطريقة التي يُقدّس بها المسيحيون القبور المقدسة لديهم عند رحلات الحج؛ «مكة هي المكان الذي دُفِنَ فيه محمد، يذهب المسلمون هناك للحج كما يذهب المسيحيون إلى القبر المقدس»[3]. وقد ارتبطت تلك الأسطورة دائمًا بالمدن الدينية الشرقية المهمة سياسيًّا ودينيًّا، مثل مكة المكرمة وبيت المقدس. علاوةً على ذلك، يجب ألَّا ننسى أنَّ الجزيرة العربية كانت للغرب مهدًا للإعجاب بالشرق، لذلك سيكون هناك مجال لبعض الغرائب والعجائب والأساطير، كتلك الأسطورة التي اتسقت بالعقل الأوروبي من خلال تابوت القديس توما الأكويني، والذي اعتقد البعض أنَّه معلّق في الهواء، لذا ربط رسامو الخرائط بينه وبين قبر النبي صلى الله عليه وسلم [4]. ومن بين خرائط العصور الوسطى المتناولة: تلك الأسطورة المتعلقة بخرائط أنجيلينو دولسيرت والمؤرخة بين أعوام 1325- 1339م، من خلال تمثيل مكة المكرمة كأنها بقعة سوداء بين برجين عاليين ممثلين على الخريطتين. ويقدّم النص التوضيحي المجاور للشكل على الخريطة أنَّ «في هذه المدينة يوجد قبر محمد مُعلّقًا في الهواء بحكم الجاذبية»[5]. ويفسّر البعض اللون الأسود الموجود بأنه تمثيل الحجر المغناطيسي الذي يجعل التابوت معلقًا، وهو ما أشارت له الدراسة المتعمقة التي كتبها Sandra Sáenz-Lápez Pérez؛ والتي توضّح أنَّ بعض الخرائط أشارت لـ«تابوت محمد» -على حد تعبيرهم-، يُمثّل الوعاء الذي تُحفَظ فيه رفاته؛ لأنَّه يتّخذ شكل النعش، ومُشابه للهيكل المرتبط بالقبر المقدّس في العقيدة المسيحية، والتوابيت والأواني الجنائزية إبَّان العصور الوسطى والمستخدَمة لحفظ آثار ورفات القديسين، الأمر الذي دعا رسّامي الخرائط الغربيين لتمثيل أشياء مألوفة لديهم وتتطابق مع الغرض المراد تمثيله؛ لأنَّ رؤيتهم لقبره صلى الله عليه وسلم في هذه الخرائط تعود لفكرة أنَّه صلى الله عليه وسلم يُعْبَد مِن قِبَل المسلمين، لذا يجب تقديسه والإشارة لتابوته وقبره[6]؛ على حدّ زعمهم. فكان لا بدَّ من ربط هذه الصورة بالتوابيت ذات التقاليد العريقة والمألوفة لهم في عالم العصور الوسطى والمرتبطة بجِرَار حِفْظ رُفَات القديسين[7]، وهو ما أشار له جويلم سولير في خريطته المؤرخة في 1380م؛ حيث جاء تمثيل قبره صلى الله عليه وسلم مرتكزًا على أرجل صغيرة في قاعدته، ولكنها لا تدعمه فيظهر الشكل معلقًا في الهواء، يصاحبه نصّ يشير لتلك الأسطورة: «مكة: في هذه المدينة قبر محمد النبي...[8] يأتي المسلمون إلى هنا من جميع الأنحاء لرؤية محمد»[9]. كما ربَط بعض الباحثين ممن اهتموا بدراسة أسطورة التوابيت المعلقة؛ بين أسطورة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الأحداث الإسلامية، ومنها رحلة الإسراء والمعراج، والصخرة المعلقة ببيت المقدس التي صعد من عليها النبي صلى الله عليه وسلم ليمتطي البراق ليعرج به إلى السماء. كما ربط البعض بينها وبين الحجر الأسود الموجود بالكعبة المشرفة؛ حيث اعتقدوا بأنَّه حجر مغناطيسي، وهو ما أشار له رودريجو خيمينيز دي رادا (حوالي 1170- 1247م) رئيس أساقفة طليطلة[10]، وكان ممثلاً للكنيسة الإسبانية في مجلس ليون الكنسي عام 1245م، والذي تبنَّى فكرة الحرب ضد المسلمين في الأندلس واسترجاع الأراضي من يد المسلمين[11]. ومثَّلت رحلة الإسراء والمعراج حدثًا ذا أهمية في العقيدة الإسلامية، فضلًا عن محتواها الإعجازي، فاحتلت مركزًا جوهريًّا في التأويل والسرد؛ كونها من أَجَلّ المعجزات وأعظم الآيات التي تفضَّل بها المولى -سبحانه- على نبيِّه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم ، دون بقية الأنبياء؛ فلم يَسبق لبشرٍ أن قام برحلة مشابهة[12]، فالقائم بالرحلة هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عبر رحلة ليلية «أُفقية» عبر الزمان والمكان، أُسرِي به فيها من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى على ظهر البراق، مع صعود –معراج- «رأسي» إلى السماء... المقال https://albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=33433 🔴 من مقالات #مجلة_البيان عدد(460) لشهر ذو الحجة 1446هـ

Comments