
صـحيفة المـريديان تـايمز
June 17, 2025 at 01:25 PM
*التفاوض كأداة لحفظ السلطة: قراءة مقارنة في الحسابات الاستراتيجية للنظامين الإيراني والسوداني*
*كتـبت: سـارة الـسعيد*
في الأنظمة السلطوية، وبخاصة تلك القائمة على هياكل هجينة تجمع بين الأيديولوجيا والمؤسسة الأمنية، لا يشكل التفاوض في الغالب وسيلة لحل النزاعات، بل يتحول إلى ساحة استراتيجية للحفاظ على النظام وإعادة ضبط توازنات القوة الداخلية والخارجية. يظهر هذا المنطق بوضوح في أسلوب كل من النظام الإيراني في إدارة ملفه النووي، وقيادة الجيش السوداني في إدارة الأزمة المسلحة الداخلية المستمرة. وعلى الرغم من اختلاف السياقات الجيوسياسية بين الحالتين، إلا أن كليهما يعكس ذهنية استراتيجية متقاربة، يوظف فيها التفاوض كأداة للبقاء السياسي لا كمسار لتسوية حقيقية.
يتسم النمط التفاوضي الإيراني، لا سيما بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي (JCPOA) في عام 2018، بإطالة أمد المحادثات، وربط الملفات، واعتماد تصعيدات تكتيكية دورية. تواصل طهران طرح مطالب جديدة أو إعادة فتح قضايا سبق الاتفاق عليها مع كل تقدم في المفاوضات، بما يضمن عدم الوصول إلى تسوية نهائية لا تحفظ جوهر بنية النظام الأمنية والأيديولوجية. ففي نظر القيادة الإيرانية، أي اتفاق نهائي قد يمس استقلالية الحرس الثوري، أو شبكات الوكلاء الإقليمية، أو مركزية ولاية الفقيه، يُعتبر تهديداً وجودياً للنظام.
على نحو موازٍ، يتبع الجيش السوداني، ولا سيما بعد انهيار الحكومة الانتقالية في 2021 واندلاع النزاع المسلح الداخلي في 2023، أسلوباً تفاوضياً يستهدف تثبيت سيطرته المتجذرة على مؤسسات الدولة ومواردها وقطاعها الأمني. لا تسعى جولات التفاوض إلى إنهاء النزاع بقدر ما تخدم تفتيت تحالفات المعارضة، واستنزاف جهود الوساطة الدولية، وتأجيل أي إصلاحات هيكلية قد تقوض مركزية الجيش في النظام السياسي ما بعد الصراع.
في الحالتين، يعمل النظامان ضمن منظومات سياسية هجينة تتشابك فيها السرديات الأيديولوجية — الشرعية الثورية الإسلامية في إيران؛ والإسلام السياسي العسكري في السودان — مع شبكات المؤسسة العسكرية والأمنية. وهذا يفرز حسابات تفاوضية يحكمها ليس منطق حل النزاعات التقليدي، بل ضرورة الحفاظ على السيطرة على أجهزة القمع، والشبكات المالية، والشرعية العقائدية للنظام.
يتجسد هذا المنطق المشترك عبر ثلاثة أدوات استراتيجية متداخلة: أولاً، تعزيز السيطرة الداخلية من خلال القمع الأمني أثناء مراحل التفاوض لشل أي ضغط داخلي يطالب بالتنازل؛ ثانياً، تفتيت المعارضة لمنع نشوء شريك تفاوضي موحد قادر على فرض شروط مضادة؛ وثالثاً، توظيف الانقسامات الجيوسياسية بين الأطراف الدولية لتقليص الضغوط الخارجية. ففي الحالة الإيرانية، يتم استغلال التنافس بين القوى الغربية وروسيا والصين والفاعلين الإقليميين؛ أما في الحالة السودانية، فيستثمر الجيش التباينات بين القاهرة، الرياض، أبوظبي، واشنطن، والاتحاد الأوروبي لصالحه.
ما يبدو للوهلة الأولى مماطلة تكتيكية في كلا النظامين، هو في جوهره عقيدة تشغيلية منظمة: إذ يحوّل كل من النظامين عملية التفاوض ذاتها إلى أداة استقرار للنظام. فاستمرار الأزمة يصبح مفضلاً على الحسم النهائي طالما أن ذلك يسمح بإدامة السيادة المركزية للنظام وتعطيل زخم الإصلاح.
في المحصلة، تكشف الحالتان الإيرانية والسودانية عن نمط سلوكي أوسع ضمن الأنظمة السلطوية الهجينة: حيث لا يعد التفاوض أداة دبلوماسية لتسوية النزاعات، بل آلية محسوبة للبقاء السياسي. يتحول فعل التفاوض إلى أداة لخلق حالة عدم استقرار مضبوطة تعزز قبضة النظام على السلطة دون الاضطرار إلى تقديم تنازلات هيكلية جوهرية.

👍
❤️
🙏
5