الكتاب الشهري
June 15, 2025 at 07:22 PM
*أهمية العُزلة والانفراد:*
قال ابن الجوزي رحمه الله:
*ما أعرف نفعًا كالعُزلة عن الخلق، خصوصًا للعالِم والزاهد؛* فإنك لا تكاد ترى إلا شامتًا بنكبةٍ، أو حسودًا على نعمةٍ، أو مَن يأخذ عليك غلطاتِك!
*فيا للعزلة! ما ألذَّها! سلمَتْ من كَدَر غيبةٍ، وآفاتِ تَصَنُّعٍ... وتضييع الوقت،*
*ثم خلا فيها القلب بالفكر بعد ما كان مشغولًا عنه بالمخالطة، فدبَّر أمر دنياه وآخرته،* فمَثَلُه كمَثَل الحِمْيَة، يخلو فيها المَعِيُ بالأخلاط فيُذيبُها.
*وما رأيتُ مثلَ ما يصنع المُخالِط؛ لأنه يرى حالتَه الحاضرة مِن لقاء الناس وكلامهم، فيشتغل بها عمَّا بين يديه،* فمَثَلُه كمَثَل رجلٍ يريد سفرًا قد أَزِفَ، فجالَسَ أقوامًا، فشغلوه بالحديث حتى ضُرِبَ البُوق وما تزوَّد!
*فلو لم يكن في العُزلة إلا التفكير في زاد الرحيل، والسلامة من شر المخالطة، لكفى.*
❍ *ثم لا عُزلة على الحقيقة إلا للعالِم والزاهد؛ فإنهما يعلمان مقصود العُزلة، وإن كانا لا في عُزلةٍ:*
➢ *أما العالِم: فعِلمُه مُؤنِسُه، وكتبُه مُحدِّثُه، والنظر في سِيَر السلف مُقوِّمُه، والتفكير في حوادث الزمان السابق فُرجَتُه،* فإن ترقَّى بعلمِه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه، وتشبَّث بأذيال محبته: تضاعفت لذَّاتُه، واشتغل بها عن الأكوان وما فيها، فخلا بحبيبِه، وعَمِلَ معه بمقتضى علمِه.
➢ *وكذلك الزاهد: تعبُّدُه أنيسُه، ومعبودُه جليسُه*...
*إنما اعتزلا ما يُؤذي، فهما في الوحدة بين جماعةٍ، فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق، وسلم الخلق من شرورهما،* بل هما قدوةٌ للمتعبدين، وعَلَمٌ للسالكين: يَنتفِع بكلامِهما السامعُ، وتُجري موعظتُهما المَدامعَ، وتنتشر هيبتُهما في المَجامعِ، فمَن أراد أن يتشبَّه بأحدِهما، فليصابر الخلوةَ وإن كَرِهَها، ليُثمِرَ له الصبرُ العسلَ.
¤ *وأعوذ بالله من عالِمٍ مُخالِطٍ للعالَم، خصوصًا لأرباب المال والسلاطين، يَجتلِب ويُجتلَب، ويَختلِب ويُختلَب، فما يحصل له شيءٌ من الدنيا إلا وقد ذهب من دينِه أمثالُه! ثم أين الأَنَفَة من الذُّلِّ للفُسَّاق؟!*
*فالذي لا يبالي بذلك هو الذي لا يذوق طعم العلم، ولا يدري ما المراد به*...
¤ *وكذلك المُتزهِّد إذا خالَطَ وخلَّطَ؛ فإنه يَخرج إلى الرياء والتصنُّع والنفاق، فيفوتُه الحَظَّان، لا الدنيا ونعيمُها تَحصُلُ له، ولا الآخرة.*
*فنسأل الله عزَّ وجلَّ خَلوةً حُلوةً، وعُزلةً عن الشر لذيذةً، يَستصلِحُنا فيها لمُناجاتِه، ويُلهِمُ كلَّا منا طلبَ نجاتِه. إنه قريبٌ مُجيبٌ.*
صيد الخاطر (ص ٥٨١ - ٥٨٢).
👍
❤️
💙
5