
Hasan Ismaik
836 subscribers
Verified ChannelSimilar Channels
Swipe to see more
Posts

في هذا المشهد العظيم، حيث تنكشف الحقائق وتُبرز النفوس، فلا يوارى سرٌّ، ولا يخفى ضمير. يوم القيامة، حين يتردد سؤال: "لِمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَ؟" يأتي الجواب مزلزلاً للظالمين، مطمئناً للمؤمنين: "لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ". يومٌ لا ظلَّ فيه للظلم، ولا مهرب من الحساب. يا من غرَّتك الدنيا بزينتها.. أتنسى أن كل حركةٍ وسكنةٍ مُحصاة؟ يا من ظلمت نفسك بالمعاصي.. ألا تخشى يومَ لا ينفع الظالمين اعتذارهم؟ اللهم اجعلنا من العابدين الخاشعين، المُستعدين لليوم الموعود. جمعة مباركة

إن لسان حال معظم شعوب المنطقة اليوم، وهم يتابعون الصواريخ المتبادلة تعبر وتتصادم فوق رؤوسهم، يقول: " لقد جربنا كل أنواع الحروب، المباشرة وبالوكالة، فمتى سيأتي الزمن الذي نجرب فيه السلام؟"

في عالمٍ يُربط فيه الانتصار بقوة السلاح، يهمس لنا الفيلسوف الأميركي رالف والدو إيمرسون بحقيقةٍ أعمق: "الانتصارات الحقيقية والدائمة هي الانتصارات التي تنتهج السلام وليس الحرب". الحرب تهدم كل شيء: الأرواح، المدن، والأهم، الثقة. حتى "المنتصر" يخرج منها مثخناً بالجراح، محملاً بعبء الكراهية، ليترك وراءه بذور صراعات لا تنتهي. أما الانتصار بالسلام، فهو لا يُخضع طرفاً، بل يعزز التفاوض والتفاهم، ويُعلي من شأن الإنسانية جمعاء من خلال حلول مشتركة تُبنى لا تُفرَض.

من الغريب أن يُنظر إلى مطلب صياغة دستور سوري جديد يضمن حقوق الجميع ويعزز الديمقراطية على أنه شأن خاص بالأقليات وحدها. فلو افترضنا، تجاوزاً، إمكانية إغفال حقوق الأقليات، ألا يحتاج بقية السوريين لقانون يحميهم ويحفظ حرياتهم الاجتماعية والفكرية والدينية؟

مهما كان الدعم الخارجي لأيّ دولة قوياً ومؤثراً فإنه وحده غير كافٍ للوصول بها إلى برّ الأمان، والسلطة الذكية هي التي تستطيع إرفاق ذلك الدعم بالتأسيس لمشروع وطني حقيقي وجامع، يصير هو القاعدة المتينة التي تضمن التعافي والنهوض والاستمرار كذلك. أما كيف يصاغ ذلك المشروع فقد يحتاج جهوداً جبارة وعملاً لا يتوقف ووقتاً قد يكون طويلاً، ولا توجد وصفة جاهزة لتحقيقه وتختلف معطياته بين بلد وآخر، لكنه بالتأكيد يبدأ من خطوة واحدة: إشراك الجميع في الرأي والقرار لا سيما إن كان البلد يتسم بتعدد الآراء والانتماءات بجميع أشكالها، ومن هنا يمكن لهذا التنوع أن يصبح ميزة وقيمة مضافة في صناعة مستقبل ذلك البلد.

بعد عقود من الحكم الاستبدادي في ظل عائلة الأسد، يتطلب التحول السوري بداية جديدة حقيقية. وصياغة دستور جديد أمرٌ أساسي لضمان حكم جامع، وحماية الحقوق الأساسية، والتخلص من إرث الاستبداد. الدستور المتجذر في سيادة القانون وفي فصلٍ حقيقي للسلطات، وحده ما سيمكن السوريين من ضمان قيادة مسؤولة وتمثيل عادل. يجب أن يتبع ذلك انتخابات حرة وذات مصداقية، تُعطي جميع السوريين صوتاً في رسم مستقبلهم، وتمهد الطريق للمصالحة الوطنية والاستقرار الدائم. عندها لن يتمكن أي طرف من العبث في الشأن الداخلي السوري، وسينظر الشرق والغرب إلى سوريا حينها نظرة احترام مستحقة.

دمّر النظام السابق سوريا بالكامل، إذ لم يسلم منه النظامُ الاجتماعي ولا الاقتصادي ولا السياسي ولا التعليمي، وضيّع مقدّرات البلاد وثرواتها، وجعل الدولة مطيّةً للفساد والإحباط والفشل. لذلك، فإن الواجب الرئيسي على أيّ حكومةٍ مقبلة أن تسارع إلى صياغة عقدٍ اجتماعيٍّ جديد، تتأسّس أركانه على حماية حرية المواطن وصَون كرامته، وعلى تعزيز قيم التسامح والحوار وتعدّد الآراء، وعلى تقبّل النقد وعدم اعتباره تهجّماً أو عداوة، بل حافزاً للبناء والتطوير والتنمية، وطريقاً لتكوين نسيجٍ سياسيٍّ ديمقراطيٍّ يُنسَج بخيوطٍ من ذهب، ليقوم نظامُ حكمٍ يجمع بين الأصالة والحداثة، مستنيراً بقول الله سبحانه: (وأمرهم شورى بينهم) من جهة، وبدولة المؤسسات والمساواة والمواطنة من جهةٍ ثانية. هكذا يستطيع السوريون استئناف حاضرهم، وإعادة بناء كلّ ما هدمه النظام من مقدّراتهم وسبل عيشهم.

«لا تخف أبداً أن ترفع صوتك من أجل الصدق والحقيقة ومن أجل التعاطف ضد الظلم والكذب والطمع، لو فعل كل الناس ذلك.. سيتغير العالم». تسلط مقولة ويليام فوكنر هذه الضوء على المسؤولية الفردية في تشكيل مصير المجتمعات. فالتغيير العالمي الذي يتحدث عنه ليس نتيجة لعمليات كبرى غير مرئية، بل هو محصلة لتراكم قرارات وأفعال فردية. عندما يتجرأ كل شخص على تحدي الظلم والكذب والطمع في نطاق تأثيره، ولو كان صغيراً، فإنَّ هذا يُحدث تأثيراً متتالياً ويبني جسوراً من الثقة والعدالة. يطرح فوكنر رؤيا متفائلة، تؤمن بأنَّ الخير متأصل في البشر، وأنَّ إطلاق العنان له يتطلب فقط التغلب على الخوف. فإذا كانت كل قطرة ماء تحدث أثراً في المحيط، فكم هو عظيم أثر كل صوت يرتفع من أجل الحق في بحر الحياة؟

كثير من الأنظمة تُشيِّدُ صروحَها على رمال الخوف والوعود الزائفة، فتظنُّ أنها أبدية لأنها أغلقتْ كلَّ الأبواب أمام السؤال. لكن التاريخ يُعلّمنا أنَّ الشعوبَ التي تُقهرُ بطريقةٍ منهجيةٍ تحوّلُ قهرها إلى طاقةٍ تفجيريةٍ لا تُبقي ولا تذر. والمأساةُ ليست في الثوراتِ ذاتها، بل في اختطافِها من قبلِ قوى تُعيدُ إنتاجَ الاستبدادِ بوجوهٍ جديدة. فهل نتعلمُ أنَّ الإصلاحَ الحقيقيَّ لا يبدأُ من القمة، بل من إعادةِ تعريفِ العقد الاجتماعي بين الحاكمِ والمحكوم؟

لم ينل أحدٌ من الخَلقِ هذه المكانةَ الساميةَ، وهذا التشريفَ العظيمَ، كما ناله سيدُنا محمدٌ عليه الصلاة والسلام؛ إذ إنّ الله سبحانه، قبل أن يأمرَ المؤمنين بالصلاة عليه، بدأ بنفسه فصلى عليه، وتبعته الملائكة جميعًا في ذلك.. وهذا هو التشريف الذي لا يدانيه شيء. اللهم فاجعل صلاتنا على نبيك عملاً خالصًا لوجهك الكريم، وارزقنا بها نوري الدنيا والآخرة. جمعة مباركة